فصل: فصل: (المسايفة والمسابقة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


كتاب الكراهية

وفيه بيان ما يكره من الأفعال وما لا يكره، وسمي بالكراهية لأن بيان المكروه أهم لوجوب الاحتراز عنه، والقدوري سماه في مختصره وشرحه‏:‏ الحظر والإباحة، وهو صحيح لأن الحظر المنع، والإباحة الإطلاق، وفيه بيان ما منع منه الشرع وما أباحه؛ وسماه بعضهم‏:‏ الاستحسان، لأن فيه بيان ما حسنه الشرع وقبحه، ولفظة الاستحسان أحسن، أو لأن أكثر مسائله استحسان لا مجال للقياس فيها؛ وبعضهم يسميه‏:‏ كتاب الزهد والورع لأن فيه كثيرا من المسائل أطلقها الشرع والزهد والورع تركها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏المكروه عند محمد حرام‏)‏ إلا أنه لما لم يجد فيه نصا لم يطلق عليه الحرمة ‏(‏وعندهما هو إلى الحرام أقرب‏)‏ لتعارض الأدلة فيه وتغليب جانب الحرمة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما اجتمع الحرام والحلال إلا وقد غلب الحرام الحلال‏)‏ قالوا‏:‏ معناه دليل الحل ودليل الحرمة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والنظر إلى العورة حرام إلا عند الضرورة كالطبيب والخاتن والخافضة والقابلة، وقد بينا العورة في‏)‏ كتاب ‏(‏الصلاة‏)‏ والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل للمؤمنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الآية، معناه يسترونها من الانكشاف لئلا ينظر إليها الغير نقلا عن المفسرين، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ملعون من نظر إلى سوءة أخيه‏)‏ فأما حالة الضرورة فالضرورات تبيح المحظورات، ألا ترى أن الله أباح شرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير ومال الغير حالة المخمصة وما إذا غص، وهذا لأن أحوال الضرورات مستثناة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ وفي اعتبار حالة الضرورة حرج وتكليف ما ليس في الوسع، ولأن هذه الأفعال مأمور بها، فعند بعضهم هي واجبة، وعند البعض سنة مؤكدة، ولا يمكن فعلها إلا بالنظر إلى محالها، فكان الأمر بها أمرا بالنظر إلى محالها ويلزم منه الإباحة ضرورة، وينبغي للطبيب أن يعلّم امرأة مداواتها، لأن نظر المرأة إلى المرأة أخف من نظر الرجل إليها لأنها أبعد من الفتنة، فإذا لم يكن منه بد فليغض بصره ما استطاع تحرزا عن النظر بقدر الإمكان، وكذلك تفعل المرأة عند النظر إلى الفرج عند الولادة وتعرّف البكارة، ألا يرى أنه يجوز النظر إليه لتحمل الشهادة على الزنا ولا ضرورة فهذا أولى، والعورة في الركبة أخف فكاشفها ينكر عليه برفق، ثم الفخذ وكاشفه يعنف على ذلك؛ ثم السوأة فيؤدب كاشفها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا العورة‏)‏ لأن المنهي عنه النظر إلى العورة دون غيرها وعليه الإجماع، وقد قبّل أبو هريرة سرة الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال‏:‏ هذا موضع قبلّه رسول الله عليه الصلاة والسلام ولأن الرجال يمشون في الطرق بإزار في جميع الأزمان من غير نكير، فدل على جواز النظر إلى الأبدان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتنظر المرأة من المرأة والرجل إلى ما ينظر الرجل من الرجل‏)‏ أما المرأة إلى المرأة فلانعدام الشهوة وللضرورة في الحمامات وغيرها، وأما نظرها إلى الرجل فلاستوائهما في إباحة النظر إلى ما ليس بعورة، ولأن الرجال يمشون بين الناس بإزار واحد، فإذا خافت الشهوة أو غلب على ظنها لا تنظر احترازا عن الفتنة، وكل ما جاز النظر إليه جاز مسه لاستوائهما في الحكم إلا إذا خافت الشهوة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وينظر من زوجته وأمته التي تحل له إلى جميع بدنها‏)‏ وكذا يحل له مسها والاستمتاع بها في الفرج وما دونه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هم لفروجهم حافطون ‏(‏‏[‏المؤمنون‏:‏ 5‏]‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فإنهم غير ملومين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 6‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏غض بصرك إلا عن زوجتك‏)‏ ولا يحل له الاستمتاع بها في الدبر ولا في الفرج حالة الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا وصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد‏)‏ ونظره إلى فرجها ونظرها إلى فرجه مباح‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النظر أبلغ في تحصيل اللذة، وقيل الأولى أن لا ينظر لأنه يورث النسيان، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم أهل فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وينظر من ذوات محارمه وأمة الغير إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين والشعر‏)‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الآية، والمراد موضع الزينة، لأن النظر إلى نفس الثياب والحلي والكحل وأنواع الزينة حلال للأجانب والأقارب، فكان المراد مواضع الزينة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ومواضع الزينة ما ذكرنا، فالرأس موضع الإكليل، والشعر موضع العقاص، والأذن موضع القرط، والعنق موضع القلائد، والصدر موضع الوشاح، والعضدان موضع الدملج، والذراع موضع السوار، والساق موضع الخلخال‏.‏ وعن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط، ويستوي في ذلك المحرمية بالنسب والرضاع والمصاهرة لأن الحرمة مؤبدة في الكل فيستوين في إباحة النظر والمس‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بأن يمس ما يجوز النظر إليه إذا أمن الشهوة‏)‏ لأن المسافرة معهن حلال بالنص ويحتاج في السفر إلى مسهن في الإركاب والإنزال، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قدم من مغازيه قبّل رأس فاطمة‏.‏ وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قبّل رأس عائشة

ومحمد ابن الحنفية كان يقبّل رأس أمه، ولأن المرحم لما كان لا يشتهي عادة حلت معه محل الرجال، ولا ينبغي أن يفعل شيئا من ذلك إذا خاف الشهوة أو غلبت على ظنه، بل ينبغي أن يغض بصره، فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏ ولا يجوز النظر من هؤلاء إلى ما بين السترة حتى يجاوز الركبة لأنه عورة ولا إلى الظهر والبطن، لأن حكم الظهار إنما ثبت لتشبيهه بظهر الأم، فلولا حرمة ظهرها لما ثبتت حرمة الزوجية كما إذا شبهها بيدها ورجلها، وإذا ثبتت حرمة الظهر فالبطن أولى، لأن الشهوة فيها أكثر فكانت أولى بالتحريم، ولأن ذلك ليس موضع الزينة، فإن سافر معهن فلا بأس أن يحملهن وينزلهن يأخذ بالبطن والظهر، لأن اللمس من فوق الثياب لا يوجب الشهوة فصار كالنظر حتى لو كانت متجردة أو عليها ثياب رقيقة يجد حرارتها من فوقه لا يمسها تحرزا عن الوقوع في الفتنة؛ وأما أمة الغير فلأنها تحتاج إلى الخروج وقضاء الحوائج والأخذ والإعطاء فيقع النظر إليها ضرورة ومس بعض أعضائها كما في المحارم‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى أمة متخمرة ألقى خمارها وقال لها‏:‏ يا لكاع لا تتشبهين بالحرائر‏.‏ ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها لأنه محل الشهوة، ولأنه لما حرم من المحارم مع عدم الشهوة فيهن عادة فلأن يحرم من الإماء كان أولى، وإنما يباح ذلك عند عدم الشهوة لما بينا، إلا إذا أراد الشراء فإنه يباح له النظر مع الشهوة دون المس، لأن المس بشهوة استمتاع بأمة الغير وأنه حرام، أما النظر فليس باستمتاع، وإنما حرم لإفضائه إلى الاستمتاع وهو الوطء‏.‏ والمسافرة بأمة الغير قيل تحل كالمحارم وقيل لا وهو المختار، لأن الشهوة إلى أمة الغير كثيرة، ولا كذلك في المحارم، ولأنه لا ضرورة إلى المسافرة والخلوة معها، وفي المحارم ضرورة لما بينا، وكذا يحل للأمة النظر من الأجنبي إلى جميع بدنه ومسه وغمزه ما خلا العورة بشرط عدم الشهوة، لأن العادة أن جارية المرأة تخدم زوجها وتغمزه وتدهنه فدل على الجواز‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة‏)‏ وعن أبي حنيفة أنه زاد القدم، لأن في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب لإقامة معاشها ومعادها لعدم من يقوم بأسباب معاشها‏.‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ قال عامة الصحابة‏:‏ الكحل والخاتم، والمراد موضعهما لما بينا، وموضعهما الوجه واليد، وأما القدم فروي أنه ليس بعورة مطلقا لأنه تحتاج إلى المشي فتبدو؛ ولأن الشهوة في الوجه واليد أكثر، فلأن يحل النظر إلى القدم كان أولى؛ وفي رواية القدم عورة في حق النظر دون الصلاة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد‏)‏ لما فيه من الضرورة إلى معرفتها لتحمل الشهادة والحكم وكما يجوز له النظر إلى العورة لإقامة الشهادة على الزنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة‏)‏ لأن المس أغلظ من النظر، فإن الشهوة بالمس أكثر، فإن كانت عجوزا لا تشتهى أو كان شيخا لا يشتهى فلا بأس بمصافحتها، لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزا تمرّضه فكانت تغمزه وتفلي رأسه، والصغيرة التي لا تشتهى لا بأس بمسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة‏.‏ ومن أراد أن يتزوج امرأة يجوز له النظر إليها وإن خاف أن يشتهي لقوله عليه الصلاة والسلام للمغيرة وقد أراد أن يتزوج امرأة‏:‏ ‏(‏انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والعبد مع سيدته كالأجنبي‏)‏ لأن خوف الفتنة منه مثلها من الأجنبي، وبل أكثر

لكثرة الاجتماع والنصوص المحرمة مطلقة، والمراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن ‏(‏‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الإماء دون العبيد قاله الحسن وابن جبير‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والفحل والخصي والمجبوب سواء‏)‏ لأن الآية تعم الكل، والطفل الصغير مستثنى بالنص، ولأن الخصي يجامع والمجبوب يساحق فلا تؤمن الفتنة كالفحل‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو شيئا منه أو يعانقه‏)‏ وعن أبي يوسف لا بأس به، وعن بعض المشايخ لا بأس به إذا قصد به الإكرام والمبرة ولم يخف الشهوة، لما روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام عانق جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه وكان يوم فتح خيبر وقال‏:‏ لا أدري بأي الأمرين أسر‏؟‏ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر‏)‏ وجه الظاهر نهيه صلى الله عليه وسلم عن المكاغمة والمكامعة، والأول التقبيل والثاني المعانقة، وما رواه محمول على الابتداء قبل النهي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بالمصافحة‏)‏ فإنها سنة قديمة متوارثة بين المسلمين من لدن الصدر الأول إلى يومنا هذا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل‏)‏ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ تقبيل يد العالم والسلطان العادل سنة، فقام عبد الله بن المبارك وقبل رأسه، وتقبيل الأرض بين يدي السلطان أو بعض أصحابه ليس بكفر لأنه تحية وليس بعبادة، ومن أكره على أن يسجد للملك الأفضل أن لا يسجد لأنه كفر، ولو سجد عند السلطان على وجه التحية لا يصير كافرا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في لبس الحرير‏]‏

‏(‏ويحل للنساء لبس الحرير، ولا يحل للرجال إلا مقدار أربع أصابع كالعلم‏)‏ لما روي عن علي رضي الله عنه ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرة بشماله وذهبا بيمينه ثم رفع بهما يديه وقال‏:‏ إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها‏)‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرير على الرجال إلا ما كان هكذا وهكذا، وذكر أصبعين وثلاثا وأربعا‏)‏ وروي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة‏)‏ وأراد به الإعلام وأهدى المقوقس ملك الإسكندرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة أطرافها من ديباج فلبسها ولأن الناس اعتادوا لبس الثياب وعليها الأعلام في سائر الأزمان، والمعنى فيه أنه تبع للثوب فلا حكم له‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بتوسده وافتراشه‏)‏ وكذا ستر الحرير وتعليقه على الباب، وقالا‏:‏ يكره لعموم النهي ولأنه من زي الأعاجم وقد نهى عنه‏.‏ وله أن النهي ورد في اللبس وهذا دونه فلا يلحق به، ولأن القليل من اللبس حلال وهو العلم فكذا القليل من الاستعمال حتى لا يجوز جعله دثارا بالإجماع‏.‏ وعن ابن عباس أنه كان له مرفقة حرير على بساطه، ولأن افتراشه استخفاف به فصار كالتصاوير على البساط فإنه يجوز الجلوس عليه ولا يجوز لبس التصاوير‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بلبس ما سداه إبريسم ولحمته قطن أو خز‏)‏ لأن الثوب بالنسج والنسج باللحمة، فتعتبر اللحمة دون السدا، فما كان ساده حريرا ولحمته غيره يجوز لبسه في الحرب وغيره بالإجماع، وما كان بالعكس يجوز في الحرب خاصة بالإجماع أيضا للضرورة لأنه أهيب وأدفع لمضرة السلاح‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ لبس الحرير في الحرب جائز لما روى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب، ولأنه أدفع لمضرة السلاح وأهيب في عين العدو فمست الحاجة إليه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز لعموم النهي، والحرام لا يحل إلا للضرورة وقد اندفعت بالمخلوط فإن الخالص إن اختص بمزية الخلوص فالمخلوط اختص بزيادة الثخانة والقوة فاستويا فيتجزأ به، ولو كان الثوب رقيقا ولا يحصل به الإرهاب لا يجوز بالإجماع‏.‏ وفي نوادر هشام عن محمد يكره لبنة الحرير‏:‏ أي القب وتكة الديباج والإبريسم لأنه استعمال تام، وما كان سداه ظاهرا كالعتابي، قيل يكره لأن لابسه في منظر العين لابس حرير وفيه خيلاء، وقيل لا يكره اعتبارا للحمة كما مر، وتكره الخرقة التي يمسح بها العرق ويمتخط بها لأنه ضرب كبر، وإن كانت لإزالة الأذى والقذر لا بأس بها، ولا بأس بالخرقة يمسح بها الوضوء لتوارث المسلمين ذلك، وقيل إن فعله تكبرا يكره كالتربع في الاتكاء إن فعل تكبرا يكره وللحاجة له‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجوز للنساء التحلي بالذهب والفضة ولا يجوز للرجال‏)‏ لما سبق من الحديث ‏(‏إلا الخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة وكتابة الثوب من ذهب أو فضة وشد الأسنان بالفضة‏)‏ أما الخاتم والمنطقة وحلية السيف فبالإجماع، والنبي عليه الصلاة والسلام كان له خاتم من فضة نقشه محمد رسول الله، ونهى عليه الصلاة والسلام عن التختم

بالذهب، ثم التختم سنة لمن يحتاج إليه كالسلطان والقاضي ومن في معناهما ومن لا حاجة له إليه فتركه أفضل‏.‏ والسنة أن يكون قدر مثقال فما دونه ويجعل فصه إلى باطن كفه، بخلاف النساء لأنه للزينة في حقهن دون الرجال، ويجوز أن يجعل فصه عقيقا أو فيروزجا أو ياقوتا أو نحوه، ويجوز أن ينقش عليه اسمه أو اسما من أسماء الله تعالى لتعامل الناس ذلك من غير نكير ولا بأس بسد ثقب الفص بمسمار الذهب لأنه قليل فأشبه العلم، ويكره التختم بالحديد والصفر للرجال والنساء لأنه حلية أهل النار وقد نهي عنه‏.‏ وروي أنه كان قبضة سيفه عليه الصلاة والسلام من فضة‏.‏ وأما كتابة الثوب كما بينا في العلم الحرير، وكرهه أبو يوسف بناء على اختلافهم في الإناء المفضض‏.‏ وأما شد الأسنان فمذهب أبي حنيفة، وقالا‏:‏ يجوز بالذهب أيضا قياسا على الأنف، فإنه روي أن عرفجة أصيب أنفه يوم كلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنفا من ذهب وكان ضرورة فيجوز‏.‏ وله أن الضرورة في الأسنان تندفع بالأدنى وهو الفضة، ولا كذلك في الأنف فافترقا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره أن يلبس الصبي الذهب والحرير‏)‏ لئلا يعتاده ألا ترى أنه يؤمر بالصوم والصلاة وينهى عن شرب الخمر ليعتاد فعل الخير ويألف ترك المحرمات فكذلك هذا، والإثم على من ألبسه لإضافة الفعل إليه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من شرب في إناء ذهب وفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏)‏ وعلى هذا المجمرة والملعقة والمدهن والميل والمكحلة والمرآة ونحو ذلك، والنصوص وإن وردت في الشرب فالباقي في معناه لاستوائهم في الاستعمال، والجامع أنه زي المتكبرين وتنعم المترفين، وأنه منهي عنه فيعم الكل ‏(‏ويستوي فيه الرجال والنساء‏)‏ لعموم النهي، وعليه الإجماع‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بآنية العقيق والبلور والزجاج والرصاص‏)‏ لأنه لا تفاخر في ذلك فلم يكن في معناه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجوز الشرب في الإناء المفضض والجلوس على السرير المفضض إذا كان يتقي موضع الفضة‏)‏ أي يتقي فمه ذلك، وقيل يتقي أخذه باليد‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يكره، وقول محمد مضطرب، وعلى هذا الاختلاف والتفصيل السرج المفضض والكرسي، والإناء المضبب بالذهب والفضة‏.‏ لأبي يوسف أنه إذا استعمل جزءا من الإناء فقد استعمل كله فيكون مستعملا للذهب والفضة‏.‏ ولأبي حنيفة أن الفضة في هذه الأشياء تابعة والعبرة للمتبوع لا للتبع، وصار كالعلم في الثوب ومسمار الذهب في فص الخاتم، وعلى هذا اللجام المفضض والركاب والثفر، أما اللجام من الفضة والركاب فحرام لأنه استعمل الفضة بعينها فلا يجوز، ولا بأس بالانتفاع بالأواني المموهة بالذهب والفضة بالإجماع، لأن الذهب والفضة مستهلك فيه لا يخلص فصار كالعدم، والأشنان والدهن يكون في إناء فضة أو ذهب يصب منه على اليد‏.‏ قال محمد‏:‏ أكره ولا أكره ذلك في الغالية لأنه يدخل يده أو عودا فيخرجها إلى الكف ثم يستعملها من الكف فلا يكون مستعملا للإناء، ولا كذلك الدهن والأشنان فإنه يكون مستعملا به بالصب منه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الاحتكار‏]‏

في الاحتكار وهو مصدر احتكرت الشيء إذا جمعته وحبسته، والاسم الحكرة بضم الحاء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره في أقوات الآدميين والبهائم في موضع يضر بأهله‏)‏ والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏‏)‏ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا تحتكروا الطعام بمكة فإنه إلحاد، وما روى ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ ‏(‏الجالب مرزوق والمحتكر محروم‏)‏ وفي رواية ‏(‏ملعون‏)‏ وعنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ ‏(‏من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه‏)‏ وروى أبو أمامة الباهلي ‏(‏أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يحتكر الطعام‏)‏ وروى عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ ‏(‏من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس‏)‏ ولأن فيه تضييقا على الناس فلا يجوز‏.‏ والاحتكار أن يبتاع طعاما من المصر أو من مكان يجلب طعامه إلى المصر ويحبسه إلى وقت الغلاء، وشرطه أن يكون مصرا يضر به الاحتكار لأنه تعلق به حق العامة، وشرط بعضهم الشراء في وقت الغلاء وينتظر زيادة الغلاء والكل مكروه‏.‏ والحاصل أن يكون يضر بأهل تلك المدينة حتى لو كان مصرا كبيرا لا يضر بأهله فليس بمحتكر لأنه حبس ملكه ولا ضرر فيه بغيره، وعلى هذا التفصيل تلقى الجلب، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا احتكار في غلة ضيعته وما جلبه‏)‏ أي من مكان بعيد من المصر أو ما زرعه، لأن له أن لا يجلب ولا يزرع فله أن لا يبيع‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يكره فيما جلبه أيضا لعموم النهي‏.‏ وقال محمد‏:‏ يكره إذا اشتراه من موضع يجلب منه إلى المصر في الغالب لتعلق حق العامة به، وما لا فلا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا رفع إلى القاضي حال المحتكر يأمره ببيع ما يفضل عن قوته وعياله، فإن امتنع باع عليه‏)‏ لأنه في مقدار قوته وعياله غير محتكر ويترك قوتهم على اعتبار السعة؛ وقيل إذا رفع إليه أول مرة نهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه ثانيا حبسه وعزره بما يرى زجرا له ودفعا للضرر عن الناس‏.‏ قال محمد‏:‏ أجبر المحتكرين على بيع ما احتكروا ولا أسعر، ويقال له‏:‏ بع كما يبيع الناس وبزيادة يتغابن في مثلها ولا أتركه يبيع بأكثر‏.‏ والأصل في ذلك ما روي ‏(‏أن السعر غلا بالمدينة فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو سعرت‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله هو المسعر‏)‏ ولأن التسعير تقدير الثمن وإنه نوع حجر‏.‏ وقول محمد‏:‏ أجبرهم على البيع يحتمل وجهين‏:‏ إما لما فيه من المصلحة العامة أو بناء على قولهما في الحجر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس‏)‏ لما بينا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يتعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا في القيمة فلا بأس بذلك بمشورة أهل الخبرة به‏)‏ لأن فيه صيانة حقوق المسلمين عن الضياع، وقد قال أصحابنا‏:‏ إذا خاف الإمام على أهل مصر الضياع والهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وفرقه عليهم فإذا وجدوا ردوا مثله، وليس هذا حجرا وإنما هو للضرورة كما في المخمصة، ولو سعر السلطان على الخبازين الخبز فاشترى رجل منهم بذلك السعر والخباز يخاف إن نقصه ضربه السلطان لا يحل أكله لأنه في معنى المكره، وينبغي أن يقول له‏:‏ بعني بما تحب ليصح البيع؛ ولو اتفق أهل بلد على سعر الخبز واللحم وشاع بينهم فدفع رجل إلى رجل منهم درهما ليعطيه فأعطاه أقل من ذلك والمشتري لا يعلم رجع عليه بالنقصان من الثمن، لأنه ما رضي إلا بسعر البلد‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ الاحتكار في كل ما يضر بالعامة نظرا إلى أصل الضرر‏.‏ وقال محمد‏:‏ الاحتكار في أقوات الآدميين كالتمر والحنطة والشعير، وأقوات البهائم كالقت نظرا إلى الضرر المقصود‏.‏ واختلفوا في مدة الاحتكار، قيل أقلها أربعون يوما كما ورد في الحديث وما دون ذلك فليس باحتكار لعدم الضرر بالمدة القصيرة؛ وقيل أقله شهر لأن ما دونه عاجل، ثم قيل يأثم بنفس الاحتكار وإن قلت المدة، وإنما بيان المدة لبيان أحكام الدنيا‏.‏ فالحاصل أن التجارة في الطعام مكروه فإنه يوجب المقت في الدنيا والإثم في الآخرة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا‏)‏ لأن المعصية لا تقوم بعينه بل بعد تغيره‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن حمل خمرا لذمي طاب له الأجر‏)‏ وقالا‏:‏ يكره لأنه أعانه على المعصية‏.‏ وفي الحديث ‏(‏لعن الله في الخمر عشرا‏)‏ وعد منهم حاملها‏.‏ وله أن المعصية شربها، وليس من ضرورات الحمل وهو فعل فاعل مختار، ومحمل الحديث الحمل لقصد المعصية حتى لو حملها ليريقها أو ليخللها جاز، وعلى هذا الخلاف إذا آجر بيتا ليتخذه بيت نار أو بيعة أو كنيسة في السواد‏.‏ لهما أنه أعانه على المعصية، وله أن العقد ورد على منفعة البيت حتى وجبت الأجرة بالتسليم وليس بمعصية، والمعصية فعل المستأجر وهو مختار في ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس ببيع السرقين‏)‏ لأنه منتفع به يلقى في الأراضي طلبا لكثرة الريع، ويجري فيه الشح والضنة وتبذل الأعواض في مقابلته فكان مالا فيجوز بيعه كسائر الأموال، بخلاف العذرة فإنه لا ينتفع بها إلا بعد الخلط، وبعد الخلط يجوز بيعها وهو المختار، ويجوز الانتفاع بعد الخلط بها كزيت وقعت فيه نجاسة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها‏)‏ وكذا الإجارة‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز بيع دور مكة وفيها الشفعة، ويكره إجارتها في الموسم، وقالا‏:‏ لا بأس ببيع أرضها لأنها مملوكة لهم لاختصاصهم بها الاختصاص الشرعي فيجوز كالبناء‏.‏ وله ما روى ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏مكة حرام وبيع رباعها حرام‏)‏ وروى الدارقطني بإسناده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏مكة مباح لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها‏)‏ قال الدارقطني‏:‏ وكانت تدعى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر السوائب، من شاء سكن ومن استغنى أسكن، ولأنها من الحرم يحرم صيدها، ولا يحل دخولها لناسك إلا بإحرام فيحرم بيعها كالكعبة والصفا والمروة والمسعى، وإنما جاز بيع البناء لأن البقعة محرمة، وقفها إبراهيم صلوات الله عليه، والبناء ملك لمن أحدثه فيجوز تصرفه فيه، والطين وإن كان من الأرض وهو من جملة الوقف، لكن من أخذ طين الوقف فعمله لبناء ملكه وصار كسائر أملاكه‏.‏ ووجه رواية الحسن أن الناس يتبايعونها في سائر الأعصار من غير إنكار‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويقبل في المعاملات قول الفاسق‏)‏ لأنها يكثر وجودها من الناس، فلو شرطنا العدالة حرج الناس في ذلك، وما في الدين من حرج، فيقبل قول الواحد عدلا كان أو فاسقا، حرا كان أو عبدا، ذكرا أو أنثى، مسلما أو كافرا دفعا للحرج‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل حرا كان أو عبدا، ذكرا أو أنثى‏)‏ لأن الصدق فيه راجح باعتبار عقله ودينه، سيما فيما لا يجلب له نفعا ولا يدفع عنه ضررا، ولهذا قبلت رواية الواحد العدل للأخبار النبوية، وإنما اشترطنا العدالة لأنها مما لا يكثر وقوعها كثرة المعاملات، ولأن الفاسق متهم والكافر غير ملتزم لها فلا يلزم المسلم بقوله، بخلاف المعاملات فإنه لا مقام له في دارنا إلا بالمعاملة، ولا معاملة إلا بقبول قوله، ولا كذلك الديانات والمعاملات كالإخبار بالذبيحة والوكالة والهبة والهدية والإذن ونحو ذلك، والديانات كالإخبار بجهة القبلة وطهارة الماء، فلو أخبره ذمي بنجاسة الماء لم يقبل قوله، لأن الظاهر كذبه إضرارا بالمسلم للعداوة الدينية ولا يتحرى، فإن وقع في قلبه صدقه لا يتيمم ما لم يرق الماء، وإن توضأ به جاز؛ ولو أخبره بذلك فاسق أو من لا تعرف عدالته، فإن غلب على ظنه صدقه سمع قوله وإلا فلا، والأحوط أن يريقه ويتيمم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويقبل في الهدية والإذن قول الصبي والعبد والأمة‏)‏ للحاجة إلى ذلك، وعليه الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا‏.‏

فصل ‏:‏ ‏[‏في مسائل مختلفة‏]‏

في مسائل مختلفة قال‏:‏ ‏(‏ويعزل عن أمته بغير إذنها، وعن زوجته بإذنها‏)‏ لأن للزوجة حقا في الوطء لقضاء الشهوة وتحصيل الولد حتى يثبت لها الخيار في الجب والعنة ولا حق للأمة، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، وقال لمولى الأمة‏:‏ ‏(‏اعزل عنها إن شئت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره استخدام الخصيان‏)‏ لأنه تحريض على الخصاء المنهي عنه لكونه مثله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره اللعب بالنرد والشطرنج وكل لهو‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏كل لعب ابن آدم حرام إلا ثلاثا‏:‏ ملاعبة الرجل مع امرأته، ورميه عن قوسه، وتأديبه فرسه‏)‏ ولأنه إن قامر عليه فهو ميسر وإلا فهو عبث والكل حرام، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لست من دد ولا الدد مني‏)‏ أي اللعب، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر‏)‏ وهذا اللعب مما يلهي عن الجمع والجماعات فيكون حراما‏.‏ وعن علي رضي الله عنه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فلم يسلم عليهم وقال‏:‏ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون‏؟‏‏.‏ وعن ابن عمر مثله‏.‏ ولم ير أبو حنيفة بأسا بالسلام عليهم ليشغلهم عن اللعب، وكرها ذلك استحقارا بهم وإهانة لهم‏.‏ والجوز الذي يلعب به الصبيان يوم العيد يؤكل إن لم يكن على سبيل المقامرة، لما روي أن ابن عمر كان يشتري الجوز لصبيانه يوم الفطر يلعبون به وكان يأكل منه، فإن قامروا به حرم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ووصل الشعر بشعر الآدمي حرام‏)‏ سواء كان شعرها أو شعر غيرها لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والموشرة والنامصة والمتنمصة‏)‏ فالواصلة‏:‏ التي تصل الشعر بشعير الغير، أو التي توصل شعرها بشعر آخر زورا؛ والمستوصلة‏:‏ التي توصل لها ذلك بطلبها؛ والواشمة‏:‏ التي تشم في الوجه والذراع، وهو أن تغرز الجلد إبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق؛ والمستوشمة التي يفعل بها ذلك؛ والواشرة التي تفلج أسنانها‏:‏ أي تحددها وترقق أطرافها تفعله العجوز تتشبه بالشواب؛ والموشرة‏:‏ التي يفعل بها بأمرها؛ والنامصة التي تنتف الشعر من الوجه؛ والمتنمصة‏:‏ التي يفعل بها ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره أن يدعو الله إلا به‏)‏ فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق ‏(‏أو يقول في دعائه‏:‏ أسألك بمقعد العز من عرشك‏)‏ وعن أبي يوسف أنه يجوز، فقد جاء في الأثر‏:‏ اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وكلماتك التامة‏.‏ ووجه الظاهر أنه يوهم تعلق عزه بالعرش، وصفات الله تعالى جميعها قديمة بقدمه، فكان الاحتياط في الإمساك عنه، وما رواه خبر آحاد لا يترك به الاحتياط‏.‏ ‏(‏ورد السلام فريضة على كل من سمع السلام إذا قام به بعض القوم سقط عن الباقين، والتسليم سنة‏)‏ والرد فريضة لأن الامتناع عن الرد إهانة بالمسلم واستخفاف به وأنه حرام ‏(‏وثواب المسلم أكثر‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏للبادي من الثواب عشرة، وللرد واحدة‏)‏ ولا يصح الرد حتى يسمعه المسلم، لأنه إنما يكون جوابا إذا سمعه المخاطب إلا أن يكون أصم فينبغي أن يرد عليه بتحريك شفته؛ وكذلك تشميت العاطس؛ ولو سلم على جماعة فيهم صبي فرد الصبي إن كان لا يعقل لا يصح، وإن كان يعقل هل يصح‏؟‏ فيه اختلاف، ويجب على المرأة رد سلام الرجل ولا ترفع صوتها لأنه عورة، وإن سلمت عليه؛ فإن كانت عجوزا رد عليها، وإن كانت شابة رد في نفسه؛ وعلى هذا التفصيل تشميت الرجل المرأة وبالعكس؛ ولا يجب رد سلام السائل لأنه ليس للتحية بل شعار السؤال؛ ومن بلغ غيره سلام غائب ينبغي أن يرد عليهما‏.‏ وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال‏:‏ يا رسول الله إن أبي يسلم عليك‏.‏ قال‏:‏ عليك وعلى أبيك السلام ‏(‏ولا ينبغي أن يسلم على من يقرأ القرآن لأنه يشغله عن قراءته، فإن سلم عليه يجب عليه الرد لأنه فرض والقراءة لا‏.‏ وذكر الرازي في أدب القضاء أن من دخل على القاضي في مجلس حكمه وسعه أن يترك السلام عليه هيبة له واحتشاما‏.‏ وبهذا جرى الرسم أن الولاة والأمراء إذا دخلوا عليهم لا يسلمون‏.‏ وإليه مال الخصاف‏.‏ وعلى الأمير أن يسلم ولا يترك السنة لتقليد العمل‏.‏ وإن جلس ناحية من المسجد للحكم لا يسلم على الخصوم ولا يسلمون عليه، لأنه جلس للحكم والسلام تحية الزائرين، فينبغي أن يشتغل بما جلس لأجله كالذي يقرأ القرآن، وإن سلموا لا يجب عليه الرد، وعلى هذا من جلس يفقه تلامذته ويقرئهم القرآن فدخل عليه داخل فسلم وسعه أن لا يرد، لأنه إنما جلس للتعليم لا لرد السلام‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره السلام على أهل الذمة‏)‏ لما فيه من تعظيمهم وهو مكروه، وإذا اجتمع المسلمون والكفار يسلم عليهم وينوي المسلمين، ولو قال‏:‏ السلام على من اتبع الهدى يجوز ‏(‏ولا بأس برد السلام على أهل الذمة‏)‏ لأن الامتناع عنه يؤذيهم والرد إحسان وإيذاؤهم مكروه والإحسان بهم مندوب، ولا يزيد في الرد على قوله‏:‏ وعليكم، فقد قيل إنهم يقولون‏:‏ السام عليكم، فيجابون بقوله وعليكم، وهكذا نقل عليه الصلاة والسلام أنه رد عليهم، ولا بأس بعيادتهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن فيه برهم وما نهينا عنه؛ ولو قال للذمي‏:‏ أطال الله بقاءك، إن نوى أنه يطيله ليسلم أو ليؤدي الجزية جاز لأنه دعاء بالإسلام، وإلا لا يجوز ‏(‏ومن دعاه السلطان أو الأمير ليسأله عن أشياء لا ينبغي أن يتكلم

بغير الحق‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من تكلم عند ظالم بما يرضيه بغير حق يغير الله قلب الظالم عليه ويسلطه عليه‏)‏ أما إذا خاف القتل أو تلف بعض جسده أو أن يأخذ ماله، فحينئذ يسعه ذلك لأنه مكره‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏واستماع الملاهي حرام‏)‏ كالضرب بالقضيب والدف والمزمار وغير ذلك‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏استماع صوت الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها من الكفر‏)‏ الحديث خرج مخرج التشديد وتغليظ الذنب، فإن سمعه بغتة يكون معذورا، ويجب أن يجتهد أن لا يسمعه لما روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام أدخل أصبعيه في أذنيه لئلا يسمع صوت الشبابة‏)‏‏.‏ وعن الحسن بن زياد‏:‏ لا بأس بالدف في العرس ليشتهر ويعلن النكاح‏.‏ وسئل أبو يوسف أيكره الدف في غير العرس تضربه المرأة للصبي في غير فسق‏؟‏ قال‏:‏ لا، فأما الذي يجيء منه الفاحش للغناء فإني أكرهه‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ في دار يسمع منها صوت المزامير والمعازف أدخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض، ولو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة هذا الفرض‏.‏ رجل أظهر الفسق في داره ينبغي للإمام أن يتقدم عليه، فإن كف عنه وإلا إن شاء حبسه أو ضربه سياطا، وإن شاء أزعجه من داره‏.‏ ومن رأى منكرا وهو ممن يرتكبه يلزمه أن ينهى عنه، لأنه يجب عليه ترك المنكر والنهي عنه، فإذا ترك أحدهما لا يسقط عنه الآخر؛ والمغني والقوّال والنائحة أن أخذ المال بغير شرط يباح له، وإن كان بشرط لا يباح لأنه أجر على معصية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره تعشير المصحف ونقطه‏)‏ لقول ابن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم‏:‏ جردوا المصاحف، ويروى‏:‏ جردوا القرآن، والنقط والتعشير ليس من القرآن فيكون منهيا عنه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بتحليته‏)‏ لأنه تعظيم له ‏(‏ولا بأس بنقش المسجد‏)‏ وقيل هو قربة حسنة، وقيل مكروه والأول أصح لأنه تعظيم له‏.‏ وأما التجصيص فحسن لأنه إحكام للبناء، ويكره للزينة على المحراب لما فيه من شغل قلب المصلي بالنظر إليه، إذا جعل البياض فوق السواد أو بالعكس للنقش لا بأس به إذا فعله من مال نفسه ولا يستحسن من مال الوقف لأنه تضييع، وتكره الخياطة وكل عمل من أعمال الدنيا في المسجد لأنه ما بني لذلك ولا وقف له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ والجلوس فيه ثلاثة أيام للتعزية مكروه، وقد رخص ذلك في غير المسجد، ولو جلس للعلم أو الناسخ يكتب في المسجد لا بأس به إن كان حسبة، ويكره بالأجر إلا عند الضرورة بأن لا يجد مكانا آخر وكانوا يكرهون غلق باب المسجد ولا بأس به في زماننا في غير أوقات الصلاة لفساد أهل الزمان فإنه لا يؤمن على متاع المسجد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بدخول الذمي المسجد الحرام أو غيره من المساجد‏)‏ لما روي ‏(‏أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا كفارا وقال‏:‏ ليس على الأرض من نجسهم شيء‏)‏ وتأويل الآية أنهم لا يدخلون مستولين أو طائفين عراة كما كانت عادتهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏سنن الفطرة‏]‏

‏(‏والسنة‏:‏ تقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة والشارب، وقصه أحسن‏)‏ وهذه من سنن الخليل صلوات الله عليه، وفعلها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بها، وقيل أول من قص الشارب واختتن وقلم الأظفار ورأى الشيب إبراهيم عليه السلام‏.‏ قال الطحاوي في شرح الآثار‏:‏ قص الشارب حسن، وهو أن تأخذ حتى ينتقص عن الإطار وهو الطرف الأعلى من الشفة العليا‏.‏ قال‏:‏ والحلق سنة وهو أحسن من القص وهو قول أصحابنا‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أحفوا الشارب وأعفوا اللحى‏)‏ والإحفاء الاستئصال، وإعفاء اللحى، قال محمد عن أبي حنيفة‏:‏ تركها حتى تكثّ وتكثر والتقصير فيها سنة، وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد على قبضته قطعه لأن اللحية زينة وكثرتها من كمال الزينة وطولها الفاحش خلاف للسنة؛ والسنة النتف في الإبط ولا بأس بالحلق، ويبتدئ في حلق العانة من تحت السرة؛ وإذا قص أظفاره أو حلق شعره ينبغي أن يدفنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ‏(‏‏[‏المرسلات‏:‏ 25 و 26‏]‏ وإن ألقاه فلا بأس به، ويكره إلقاؤه في الكنيف والمغتسل، قالوا‏:‏ لأنه يورث المرض‏.‏ وتوفير الأظفار والشارب مندوب إليه في دار الحرب ليكون أهيب في عين العدو، والأظافير سلاح عند عدم السلاح، والختان للرجال سنة وهو من الفطرة، وهو للنساء مكرمة، فلو اجتمع أهل مصر على ترك الختان قاتلهم الإمام لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه‏.‏ واختلفوا في وقته، قيل حتى يبلغ، وقيل إذا بلغ تسع سنين، وقيل عشرا، وقيل متى كان يطيق ألم الختان ختن وإلا فلا، ولو ولد وهو يشبه المختون لا يقطع منه شيء حتى يكون ما يواري الحشفة، ولا بأس بثقب أذن البنات الأطفال لأنه إيلام لمنفعة الزينة وإيصال الألم إلى الحيوان لمصلحة تعود إليه جائز كالختان والحجامة وبط القرحة وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم‏.‏ امرأة حامل اعترض الولد في بطنها ولا يمكن استخراجه إلا بأن يقطع ويخاف على الأم، إن كان ميتا لا بأس به، وإن كان حيا لا يجوز‏.‏ امرأة ماتت وهي حامل فاضطرب الولد في بطنها، فإن كان أكبر الرأي أنه حي يشق بطنها من الجانب الأيسر، لأنه تسبيب إلى إحياء نفس محترمة‏.‏ عن محمد رجل ابتلع درة أو دنانير لرجل ومات ولم يترك مالا لا يشق بطنه وعليه قيمته لأنه لا يجوز إبطال حرمة الآدمي لصيانة المال‏.‏ وروى الجرجاني عن أصحابنا أنه يشق لأن حق العبد مقدم على حق الله تعالى ومقدم على حق الظالم المتعدي‏.‏ امرأة عالجت في إسقاط ولدها لا تأثم ما لم يستبن شيء من خلفه‏.‏ شاة دخل قرنها في قدر وتعذر إخراجه ينظر أيهما أكثر قيمة يؤخر بدفع قيمة الآخر فيملكه ثم يتلف أيهما شاء‏.‏ ويكره تعليم البازي وغيره من الجوارح بالطير الحي يأخذه فيعذبه، ولا بأس بتعليمه بالمذبوح‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بدخول الحمام للرجال والنساء إذا اتزر وغض بصره‏)‏ لما فيها من معنى

النظافة والزينة وتوارث الناس ذلك من غير نكير‏.‏ وغمز الأعضاء في الحمام مكروه لأنه عادة المترفين والمتكبرين إلا من عذر ألم أو تعب فلا بأس به؛ ويكره القعود على القبور لورود النهي عنه؛ ويكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيته لأنه من عادة الجاهلية كانوا يفعلونه تعظيما له‏.‏ أما إذا أشار إليه ليريه صاحبه فلا بأس به، ولا يحمل الخمر إلى الخل ويحمل الخل إليها، ولا تحمل الجيفة إلى الهرة وتحمل الهرة إليها، ولا يحمل سراج المسجد إلى بيته، ولا بأس بحملها من البيت إلى المسجد، ولا يقود أباه النصراني إلى البيعة ويقوده من البيعة إلى البيت؛ وتستحب القيلولة وذلك بن المنجلين، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏قيلوا فإن الشيطان لا يقيل‏)‏‏.‏ رجل يختلف إلى أهل الظلم والشر ليدفع عنه ظلمه وشره إن كان مشهورا ممن يقتدي به كره له ذلك، لأن الناس يظنون أنه يرضى بأمره، فيكون مذلة لأهل الحق؛ وإن لم يكن مشهورا لا بأس به إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏المسايفة والمسابقة‏]‏

‏(‏تجوز المسابقة على الأقدام والخيل والبغال والحمير والإبل وبالرمي‏)‏ والأصل فيه حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر‏)‏ والمراد بالخف الإبل، وبالنصل الرمي، وبالحافر الفرس والبغل والحمار‏.‏ وعن الزهري قال‏:‏ كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في الخيل والركاب والأرجل، ولأنه مما يحتاج إليه في الجهاد للكر والفر، وكل ما هو من أسباب الجهاد فتعلمه مندوب إليه وكانت العضباء ناقة رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما رفع الله شيئا إلا وضعه‏)‏ وفي الحديث ‏(‏تسابق رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر وثلث عمر‏)‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تحضر الملائكة شيئا من الملاهي سوى النصال والرهان‏)‏ أي الرمي والمسابقة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن شرط فيه جعل من أحد الجانبين أو من ثالث لأسبقهما فهو جائز‏)‏ وذلك مثل أن يقول أحدهما لصاحبه‏:‏ إن سبقتني أعطيتك كذا، وإن سبقتك لا آخذ منك شيئا، أو يقول الأمير لجماعة فرسان من سبق منكم فله كذا، وإن سبق فلا شيء عليه؛ أو يقول لجماعة الرماة‏:‏ من أصاب الهدف فله كذا، وإنما جاز في هذين الوجهين لأنه تحريض على تعليم آلة الحرب والجهاد، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المؤمنون عند شروطهم‏)‏ وفي القياس لا يجوز لأنه تعليق المال بالخطر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن شرط من الجانبين فهو قمار‏)‏ وأنه حرام ‏(‏إلا أن يكون بينهما محلل بفرس كفء لفرسيهما يتوهم سبقه لهما، إن سبقهما أخذ منهما، وإن سبقاه لم يعطهما، وفيما بينهما أيهما سبق أخذ من صاحبه‏)‏ وإنما جاز ذلك لأنه بالمحلل خرج عن أن يكون قمارا فيجوز لما ذكرنا، وقيل في المحلل أن يكون إن سبقاه أعطاهما، وإن سبقهما لم يأخذ منهما وهو جائز أيضا لما ذكرنا، ولو لم يكن فرس المحلل مثلهما لا يجوز لأنه لا فائدة في إدخاله بينهما فلا يخرج من أن يكون قمارا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وعلى هذا التفصيل إذا اختلف فقيهان في مسألة وأرادا الرجوع إلى شيخ وجعلا على ذلك جعلا‏)‏ لأنه لما جاز في الأفراس لمعنى يجع إلى الجهاد يجوز هنا للحث على الجهد في طلب العلم، لأن الدين يقوم بالعلم كما يقوم بالجهاد، والمسابقة بالخيل للرياضة ما لم يتعبهما مندوب إليه، وكذلك على الأقدام والرمي، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة‏:‏ صانعه ومنبله والرامي به‏)‏ رواه عقبة بن عامر الجهني؛ ونخس الدابة وركضها للجهاد وغيره من غرض صحيح لا بأس به، وللتلهي مكروه، وركض الدابة بتكلف للعرض على المشتري مكروه لأنه يغر بالمشتري‏.‏ وفي الحديث ‏(‏تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار‏)‏ فإن العثار يكون من سوء إمساك الراكب للجام؛ والنفار من سوء خلق الدابة فتؤدب على ذلك‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص‏:‏ لا تخصين فرسا ولا تجرين فرسا، ومعناه أن صهيل الفرس يرهب العدو، والخصي يمنعه لا أنه حرام لأنهم تعارفوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا من غير نكير، ويجوز شراء الخصي من الخيل وركوبه بالاتفاق؛ ومعنى النهي الثاني إجراء الفرس فوق ما يحتمله‏.‏

فصل‏:‏ في الكسب

قال محمد بن سماعة‏:‏ سمعت محمد بن الحسن يقول‏:‏ طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة، وهذا صحيح لما روى ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏طلب الكسب فريضة على كل مسلم‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة‏)‏ أي الفريضة بعد الفريضة، ولأنه لا يتوسل إلى إقامة الفرض إلا به فكان فرضا لأنه لا يتمكن من أداء العبادات إلا بقوة بدنه وقوة بدنه بالقوت عادة وخلقة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلناهم جسدا لا يأكلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8‏]‏ وتحصيل القوت بالكسب ولأنه يحتاج في الطهارة إلى آلة الاستقاء والآنية، ويحتاج في الصلاة إلى ما يستر عورته، وكل ذلك إنما يحصل عادة بالاكتساب والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يكتسبون، فآدم زرع الحنطة وسقاها وحصدها وداسها وطحنها وعجنها وخبزها وأكلها؛ ونوح كان نجارا، وإبراهيم كان بزازا، وداود كان يصنع الدروع، وسليمان كان يصنع المكاتل من الخوص، وزكريا كان نجارا، ونبينا رعي الغنم، وكانوا يأكلون من كسبهم، وكان الصديق رضي الله عنه بزازا، وعمر يعمل في الأديم، وعثمان كان تاجرا يجلب الطعام فيبيعه، وعلي كان يكتسب فقد صح أنه كان يؤاجر نفسه، ولا تلتفت إلى جماعة أنكروا ذلك وقعدوا في المساجد أعينهم طامحة وأيديهم مادة إلى ما في أيدي الناس يسمون أنفسهم المتوكلة، وليسوا كذلك، يتمسكون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏ وهم بمعناه وتأويله جاهلون، فإن المراد به المطر الذي هو سبب إنبات الرزق، ولو كان الرزق ينزل علينا من السماء لما أمرنا بالاكتساب والسعي في الأسباب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أنفقوا من طيبات ما كسبتم ‏(‏‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ وفي الحديث ‏(‏إن الله تعالى يقول‏:‏ يا عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 25‏]‏ وكان تعالى قادرا أن يرزقها من غير هز منها، لكن أمرها ليعلم العباد أن لا يتركوا اكتساب الأسباب، فإن الله تعالى هو الرزاق ونظير هذا خلق الإنسان، فإن الله تعالى قادر على خلقه لا من سبب ولا في سبب كآدم عليه السلام، ويخلق من سبب لا في سبب كحواء، وقد يخلق في سبب لا من سبب كعيسى، وقد يخلق من سبب في سبب كسائر بني آدم؛ فطلب العبد الولد بالنكاح لا ينفي كون الخالق هو الله تعالى، فكذلك طلبه الرزق بأسبابه لا ينفي كون الرازق هو الله تعالى، والدلائل على ذلك كثيرة والأحاديث الواردة فيه متوافرة، وكتابنا هذا يضيق عن استيعابها، وفي هذا بلاغ ومقنع‏.‏ وطلب العلم فريضة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة‏)‏ وهو أقسام‏:‏ فرض، وهو مقدار ما يحتاج إليه لإقامة الفرائض ومعرفة الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو محمل الحديث؛ ومستحب وقربة كتعليم ما لا يحتاج إليه ليعلم من يحتاج إليه كالفقير يتعلم أحكام الزكاة والحج ليعلمها من وجبا عليه، وكذلك تعلم الفضائل والسنن كالأذان والإقامة والجماعة وسنة الختان ونحوها، ومباح وهو الزيادة على ذلك للزينة والكمال؛ ومكروه وهو التعلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من تعلم علما ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء ألجم بلجام من نار يوم القيامة‏)‏ ولذلك كره أبو حنيفة تعلم الكلام والمناظرة فيه وراء قدر الحاجة‏.‏ والتعليم بقدر ما يحتاج إليه لإقامة الفرض فرض أيضا‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من سئل عن علم عنده احتاج الناس إليه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار‏)‏ حتى قالوا‏:‏ يجب على المولى أن يعلم عبده من القرآن والعلم بقدر ما يحتاج إليه لأداء الفرائض، ويفترض العلماء تعليمه إلى أن يفهم المتعلم ويحفظه ويضبطه، لأنه لا يتمكن من إقامة الفرائض إلا بالحفظ؛ ولا يجب على الفقيه أن يجيب عن كل ما يسأل إذا كان هناك من يجيب غيره، فإن لم يكن يلزم الجواب، لأن الفتوى والتعليم فرض كفاية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأفضل أسباب الكسب‏:‏ الجهاد‏)‏ لأن فيه الجمع بين حصول الكسب وإعزاز الدين وقهر عدو الله تعالى ‏(‏ثم التجارة‏)‏ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث عليها فقال‏:‏ ‏(‏التاجر الصدوق مع الكرام البررة‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الله يحب التاجر الصدوق‏)‏ ‏(‏ثم الزراعة‏)‏ وأول من فعله آدم عليه السلام، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الزارع يتاجر به‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض‏)‏ ‏(‏ثم الصناعة‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام حرض عليها فقال‏:‏ الحرفة أمان من الفقر ومنهم من فضل الزرع على التجارة لأنه أعم نفعا، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما زرع أو غرس مسلم شجرة فتناول منها إنسان أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة‏)‏‏.‏ ‏(‏ثم هو‏)‏ أنواع‏:‏ ‏(‏فرض، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه‏)‏ لما بينا أنه لا يتوسل إلى إقامة الفرض إلا به وهو قضاء الدين ونفقة من يجب عليه نفقته، فإن ترك الاكتساب بعد ذلك وسعه‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من أصبح آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها‏)‏ وإن اكتسب ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام ادخر قوت عياله سنة‏.‏ ‏(‏ومستحب، وهو الزيادة على ذلك ليواسي به فقيرا، أو يجازي به قريبا‏)‏ فإنه أفضل من التخلي لنفل العبادة، لأن منفعة النفل تخصه ومنفعة الكسب له ولغيره، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏خير الناس من ينفع الناس‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏تباهت العبادات فقالت الصدقة أنا أفضلها‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الناس عيال الله في الأرض وأحبهم إليه أنفعهم لعياله‏)‏‏.‏ ‏(‏ومباح، وهو الزيادة للتجمل والتنعم‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏نعم المال الصالح للرجل الصالح‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر‏)‏‏.‏ ‏(‏ومكروه، وهو الجمع للتفاخر والتكاثر والبطر والأشر وإن كان من حل‏)‏ فقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من طلب الدنيا مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان‏)‏‏.‏ ثم اعلم أن الله تعالى خلق بني آدم خلقا لا قوام له إلا بالأكل والشرب واللباس، وكل منها ينقسم إلى‏:‏ مباح، ومحظور وغيرهما، وأنا أبينه بتوفيق الله تعالى ‏(‏أما الأكل فعلى مراتب‏:‏ فرض، وهو ما يندفع به الهلاك‏)‏ لأنه لإبقاء البينة، إذ لا بقاء لها بدونه وبه يتمكن من أداء الفرائض على ما مر ويؤجر على ذلك، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه‏)‏ فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة، وأنه منهي عنه في محكم التنزيل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومأجور عليه، وهو ما زاد عليه ليتمكن من الصلاة قائما ويسهل عليه الصوم‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف‏)‏ ولأن الاشتغال بما يتقوى به على الطاعة طاعة‏.‏ وسئل أبو ذر رضي الله عنه عن أفضل الأعمال فقال‏:‏ الصلاة وأكل الخبز إشارة إلى ما قلنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومباح، وهو ما زاد على ذلك إلى الشبع لتزداد قوة البدن‏)‏ ولا أجر فيه ولا وزر، ويحاسب عليه حسابا يسيرا إن كان من حل، فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بعرق فيه تمر ورطب فقال‏:‏ ‏(‏إنكم لتحاسبون في هذا‏)‏ فرفعه عمر ورفضه وقال‏:‏ أفي هذا نحاسب‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إي والله والذي نفسي بيده إنكم لتحاسبون يوم القيامة في الماء البارد والماء الحار إلا خرقة تستر بها عورتك، وكسرة خبز ترد بها جوعتك، وشربة ماء تطفئ بها عطشك‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ولا يلام على كفاف‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وحرام، وهو الأكل فوق الشبع‏)‏ لأنه إضاعة للمال وإمراض للنفس ولأنه تبذير وإسراف وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما ملأ ابن أدم وعاء أشر من البطن، فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس‏)‏ وتجشأ رجل في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب عليه وقال‏:‏ ‏(‏نح عنا جشاك، أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا‏؟‏‏)‏ وقيل لعمر‏:‏ ألا تتخذ جوارشا‏؟‏ فقال‏:‏ وما يكون الجوارش‏؟‏ قالوا‏:‏ هاضوما يهضم الطعام، قال‏:‏ سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إلا إذا قصد التقوي على صوم الغد‏)‏ لأن فيه فائدة ‏(‏أو لئلا يستحي الضيف‏)‏ لأنه إذا أمسك والضيف لم يشبع ربما استحى فلا يأكل حياء وخجلا، فلا بأس بأكله فوق الشبع لئلا يكون ممن أساء القري وهو مذموم عقلا وشرعا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء الفرائض‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن نفسك مطيتك فارفق بها‏)‏ وليس من الرفق أن يجيعها ويذيبها، ولأن ترك العبادة لا يجوز فكذا ما يفضي إليه، فأما تجويع النفس على وجه لا يعجز عن أداء العبادات فهو مباح وفيه رياضة النفس وبه يصير الطعام مشتهى بخلاف الأول فإنه إهلاك للنفس؛ وكذا الشاب الذي يخاف الشبق لا بأس بأن يمتنع عن الأكل ليكسر شهوته بالجوع على وجه لا يعجز عن أداء العبادات على ما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏فإنه له وجاء‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن امتنع من أكل الميتة حالة المخمصة، أو صام ولم يأكل حتى مات أثم‏)‏ لأنه أتلف نفسه لما بينا أنه لا بقاء له إلا بأكل، والميتة حالة المخمصة إما حلال أو مرفوع الإثم فلا يجوز الامتناع عنه إذا تعين لإحياء النفس‏.‏ وروي ذلك عن مسروق وجماعة من العلماء والتابعين، وإذا كان يأثم بترك أكل الميتة فما ظنك بترك الذبيحة وغيرها من الحالات حتى يموت جوعا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن امتنع من التداوي حتى مات لم يأثم‏)‏ لأنه لا يقين بأن هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بالتفكه بأنواع الفواكه‏)‏ لقوله تعالى‏:‏‏)‏ كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏ وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتركه أفضل‏)‏ لئلا تنقص درجته، ويدخل تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏واتخاذ ألوان الأطعمة والباجات، ووضع الخبز على المائدة أكثر من الحاجة سرف‏)‏ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عده من أشراط الساعة‏.‏ وعن عائشة‏:‏ أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك إلا أن يكون من قصده أن يدعو الأضياف قوما بعد قوم حتى يأتوا على آخره لأن فيه فائدة‏.‏ ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه، أو يأكل ما انتفخ منه ويترك الباقي لأن فيه نوع تجبر إلا أن يكون غيره يتناوله فلا بأس به كما إذا اختار رغيفا دون رغيف‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ووضع المملحة على الخبز، ومسح الأصابع والسكين به مكروه ولكن يترك الملح على الخبز‏)‏ لأن غيره يستقذر ذلك وفيه إهانة بالخبز وقد أمرنا بإكرامه‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أكرموا الخبز فإنه من بركات السموات والأرض‏)‏‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما استخف قوم بالخبز إلا ابتلاهم الله بالجوع‏)‏‏.‏ ومن إكرام الخبز أن لا ينتظروا الإدام إذا حضر‏.‏ ومن الإسراف إذا سقطت من يده لقمة أن يتركها‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ألق عنها الأذى ثم كلها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وسنن الطعام‏:‏ البسملة في أوله والحمدلة في آخره‏)‏ فإن نسي البسملة في أوله فليقل إذا ذكر‏:‏ بسم الله على أوله وآخره، بجميع ذلك ورد الأثر، وهو شكر المؤمن إذا رزق، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الله تعالى يرضى من عبده المؤمن إذا قدم إليه طعام أن يسمي الله في أوله ويحمد الله في آخره ‏'‏ قال‏:‏ ‏(‏وغسل اليدين قبله وبعده‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم‏)‏ والمراد بالوضوء هنا غسل اليدين، والأدب أن يبدأ بالشباب قبله وبالشيوخ بعده، ولا يمسح يده قبل الطعام بالمنديل ليكون أثر الغسيل باقيا وقت الأكل، ويمسحها بعده ليزول أثر الطعام بالكلية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويستحب اتخاذ الأوعية لنقل الماء إلى البيوت‏)‏ لحاجة الوضوء والشرب للنساء لأنهن عورة وقد نهين عن الخروج، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ فيلزم الزوج ذلك كسائر حاجاتها‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏واتخاذها من الخزف أفضل‏)‏ إذ لا سرف فيه ولا مخيلة‏.‏ وفي الحديث ‏(‏من اتخذ أواني بيته خزفا زارته الملائكة‏)‏ ويجوز اتخاذها من نحاس أو رصاص أو شبه أو أدم، ولا يجوز من الذهب والفضة لما مر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وينفق على نفسه وعياله بلا سرف ولا تقتير‏)‏ ولا يتكلف لتحصيل جميع شهواتهم، ولا يمنعهم جميعها ويتوسط، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏ ولا يستديم الشبع، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أجوع يوما وأشبع يوما‏)‏‏.‏ فالحاصل أنه يحرم على المسلم الإفساد لما اكتسبه والسرف والمخيلة فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبغ الفساد في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والله لا يحب الفساد ‏(‏‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت ففرض على كل من علم به أن يطعمه أو يدل عليه من يطعمه‏)‏ صونا له عن الهلاك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو‏)‏‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أيما رجل مات ضياعا بين أقوام أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله‏)‏ وإن أطعمه واحد سقط عن الباقين، وكذا إذا رأى لقيطا أشرف على الهلاك أو أعمى كاد أن يتردى في البئر وصار هذا كإنجاء الغريق‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن قدر على الكسب يلزمه أن يكتسب‏)‏ لما بينا ‏(‏وإن عجز عنه لزمه السؤال‏)‏ فإنه نوع اكتساب لكن لا يحل إلا عند العجز، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏السؤال آخر كسب العبد‏)‏ ‏(‏فإن ترك السؤال حتى مات أثم‏)‏ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فإن السؤال يوصله إلى ما يقوّم به نفسه في هذه الحالة كالكسب، ولا ذل في السؤال في هذه الحالة، فقد أخبر الله تعالى عن موسى وصاحبه أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه‏:‏ ‏(‏هل عندك شيء فآكله‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن كان له قوت يومه لا يحل له السؤال‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من سأل الناس وهو غني عما يسأل جاء يوم القيامة ومسألته خدوش أو خموش أو كدوح في وجهه‏)‏ ولأنه أذل نفسه من غير ضرورة وأنه حرام‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا يحل للمسلم أن يذل نفسه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره إعطاء سؤّال المساجد‏)‏ فقد جاء في الأثر‏:‏ ينادى يوم القيامة ليقم بغيض الله، فيقوم سؤّال المساجد‏.‏ ‏(‏وإن كان لا يتخطى الناس ولا يمشي بين يدي المصلين لا يكره‏)‏ وهو المختار، فقد روي أنهم كانوا يسألون في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روي أن عليا رضي الله عنه تصدق بخاتمه في الصلاة فمدحه الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 55‏]‏ وإن كان يمر بين يدي المصلي ويتخطى رقاب الناس يكره، لأنه إعانة على أذى الناس حتى قيل‏:‏ هذا فلس يكفره سبعون فلسا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز قبول هدية أمراء الجور‏)‏ لأن الغالب في مالهم الحرمة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إلا إذا علم أن أكثر ماله حلال‏)‏ بأن كان صاحب تجارة أو زرع فلا بأس به، لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام والمعتبر الغالب، وكذلك أكل طعامهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ووليمة العرس سنة‏)‏ قديمة وفيها مثوبة عظيمة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أو لم ولو بشاة‏)‏ وهي إذا بنى الرجل بامرأته أن يدعو الجيران والأقرباء والأصدقاء ويذبح لهم ويصنع لهم طعاما ‏(‏وينبغي لمن دعي أن يجيب، فإن لم يفعل أثم‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله‏)‏ فإن كان صائما أجاب ودعا، وإن لم يكن صائما أكل ودعا، وإن لم يأكل أثم وجفا لأنه استهزأ بالمضيف، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لو دعيت إلى كراع لأجبت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يرفع منها شيئا ولا يعطى سائلا إلا بإذن صاحبها‏)‏ لأنه إنما أذن له في الأكل دون الرفع والإعطاء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن دعي إلى وليمة عليها لهو إن علم به لا يجيب‏)‏ لأنه لم يلزمه حق الإجابة‏.‏ ‏(‏وإن لم يعلم حتى حضر إن كان يقدر على منعهم فعل‏)‏ لأنه نهي عن منكر ‏(‏وإن لم يقدر فإن كان اللهو على المائدة لا يقعد‏)‏ لأن استماع اللهو حرام والإجابة سنة، والامتناع عن الحرام أولى من الإتيان بالسنة ‏(‏وإن لم يكن على المائدة، فإن كان مقتدى به لا يقعد‏)‏ لأن فيه شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين، وما روي عن أبي حنيفة أنه قال‏:‏ ابتليت بهذا مرة فصبرت كان قبل أن يصير مقتدى به ‏(‏وإن لم يكن مقتدى به فلا بأس بالقعود‏)‏ وصار كتشييع الجنازة إذا كان معها نياحة لا يترك التشييع والصلاة عليها لما عندها من النياحة كذا هنا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ستر العورة‏]‏

‏(‏الكسوة‏:‏ منها فرض، وهو ما يستر العورة ويدفع الحر والبرد‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ أي‏:‏ ما يستر عوراتكم عند الصلاة، ولأنه لا يقدر على أداء الصلاة إلا بستر العورة وخلقه لا يحتمل الحر والبرد فيحتاج إلى دفع ذلك بالكسوة فصار نظير الطعام والشراب فكان فرضا ‏(‏وينبغي أن يكون من القطن أو الكتان‏)‏ هو المأثور وهو أبعد عن الخيلاء، وينبغي أن يكون ‏(‏بين النفيس والدنيء‏)‏ لئلا يحتقر في الدنيء، ويأخذه الخيلاء في النفيس‏.‏ وعن النبي عليه الصلاة والسلام ‏(‏أنه نهى عن الشهرتين‏)‏ وهو ما كان في نهاية النفاسة، وما كان في نهاية الخساسة، وخير الأمور أوساطها؛ وينبغي أن يلبس الغسيل في عامة الأوقات ولا يتكلف الجديد‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏البذاذة من الإيمان‏)‏ وهي رثاثة الهيئة، ومراده التواضع في اللباس وترك التبجح به‏.‏ ‏(‏ومستحب‏:‏ وهو ستر العورة وأخذ الزينة‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده‏)‏‏.‏ ‏(‏ومباح‏:‏ وهو الثوب الجميل للتزين به في الجمع والأعياد ومجامع الناس‏)‏ فقد روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام كان له جبة فنك يلبسها يوم عيد‏)‏، وأهدى له المقوقس قباء مكفوفا بالحرير كان يلبسه للجمع والأعياد ولقاء الوفود ‏(‏إلا أن في تكلف ذلك في جميع الأوقات صلفا ومشقة، وربما يغيظ المحتاجين فالتحرز عنه أولى‏.‏ ‏(‏ومكروه‏:‏ وهو اللبس للتكبر والخيلاء‏)‏ لما بينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام للمقداد بن معد يكرب‏:‏ ‏(‏كل والبس واشرب من غير مخيلة‏)‏‏.‏ ‏(‏ويستحب الأبيض من الثياب‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏خير ثيابكم البيض‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يحب الثياب البيض، وأنه خلق الجنة بيضاء‏)‏‏.‏ ‏(‏ويكره الأحمر والمعصفر‏)‏ ولا يظاهر بين جبتين أو أكثر في الشتاء إذا وقع الاكتفاء بدون ذلك لأنه يغيظ المحتاجين، وفيه تجبر‏.‏ وكان عمر رضي الله عنه لا يلبس إلا الخشن؛ واختيار الخشن أولى في الشتاء لأنه أدفع للبرد، واللين في الصيف فإنه أنشف للعرق؛ وإن لبس اللين في الوقتين لا بأس به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ‏(‏والسنة‏:‏ إرخاء طرف العمامة بين كتفيه‏)‏ هكذا فعله عليه الصلاة والسلام، ثم قيل قدر شبر، وقيل إلى وسط الظهر، وقيل إلى موضع الجلوس ‏(‏وإذا أراد أن يجدد لفها نقضها كما لفها‏)‏ ولا يلقيها على الأرض دفعة واحدة، هكذا نقل من فعله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فيما يستحب ويكره من الكلام‏]‏

‏(‏الكلام‏:‏ منه ما يوجب أجرا كالتسبيح والتحميد وقراءة القرآن والأحاديث النبوية وعمل الفقه‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏ والآيات والأحاديث كثيرة في ذلك ‏(‏وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعمله‏)‏ لما فيه من الاستهزاء والمخالفة لموجبه ‏(‏وإن سبح فيه للاعتبار والإنكار، وليشتغلوا عما هم فيه من الفسق فحسن‏)‏ وكذا من سبح في السوق بنية أن الناس غافلون مشتغلون بأمور الدنيا وهو مشتغل بالتسبيح، وهو أفضل من تسبيحه وحده في غير السوق، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ذاكر الله في الغافلين كالمجاهد في سبيل الله‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره فعله للتاجر عند فتح متاعه‏)‏ وكذلك الفقاعي عند فتح الفقاع يقول‏:‏ لا إله إلا الله صلى الله على محمد فإنه يأثم بذلك لأنه يأخذ لذلك ثمنا، بخلاف الغازي أو العالم إذا كبر عند المبارزة وفي مجلس العلم لأنه يقصد به التفخيم والتعظيم وإشعار شعائر الدين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره الترجيع بقراءة القرآن والاستماع إليه‏)‏ لأنه تشبه بفعل الفسقة حال فسقهم وهو التغني ولم يكن هذا في الابتداء، ولهذا كره في الأذان، وقيل لا بأس به لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏ وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كره رفع الصوت عند قراءة القرآن والجنازة والزحف والتذكير أي الوعظ، فما ظنك به عند استماع الغناء المحرم الذي يسمونه وجدا‏؟‏‏.‏ وكره أبو حنيفة قراءة القرآن عند القبور لأنه لم يصح عنده في ذلك شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يكرهه محمد، وبه نأخذ لما فيه من النفع للميت لورود الآثار بقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والفاتحة وغير ذلك عند القبور‏.‏‏.‏ ومذهب أهل السنة والجماعة أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره ويصل لحديث الخثعمية وقد مر في الحج، ولما روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته‏)‏ أي جعل ثوابه عن أمته‏.‏ وروي أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم ولك‏)‏‏.‏ ورفعت امرأة صبيها وقالت‏:‏ يا رسول الله ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم ولك أجر‏)‏ والآثار فيه كثيرة، ومنع بعضهم من ذلك وقال‏:‏ لا يصل متمسكا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏ وبقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏)‏ الحديث‏.‏ الجواب عن الآية من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أنها سيقت على قوله‏:‏ ‏{‏أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏ فيكون إخبارا عما في شريعتهما فلا يلزمنا، كيف وقد روينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام خلافه‏؟‏‏.‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏ هذا لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة لهم ما سعوا وسعى لهم‏.‏ الثاني أنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذريتهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏ أدخل الذرية الجنة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس‏.‏ الثالث قال الربيع بن أنس‏:‏ المراد بالإنسان هنا الكافر، أما المؤمن له أجر ما سعى وسعى له‏.‏ الرابع تجعل اللام بمعنى على وأنه جائز‏.‏ قال‏:‏ فخر صريعا لليدين وللفم، فيصير كأنه قال‏:‏ وأن ليس على الإنسان إلا ما سعى فيحمل عليه توفيقا بين الآية والأحاديث، ولأنه معنى صحيح لا خلاف فيه ولا يدخله التخصيص‏.‏ الخامس أنه سعى في جعل ثواب عمله لغيره فيكون ما سعى عملا بالآية‏.‏ السادس أن السعي أنواع‏:‏ منها بفعله وقوله، ومنها بسبب قرابته، ومنها بصديق سعى في خلته، ومنها بما يسعى فيه من أعمال الخير والصلاح وأمور الدين التي يحبه الناس بسببها فيدعون له ويجعلون له ثواب عملهم وكل ذلك بسبب سعيه، فقد قلنا بموجب الآية فلا يكون حجة علينا‏.‏ وأما الحديث فإنه يقتضي انقطاع عمله ولا كلام فيه إنما الكلام في وصول ثواب عمل غيره إليه، والحديث لا ينفيه، على أن الناس عن آخرهم قد استحسنوا ذلك فيكون حسنا بالحديث‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومنه ما لا أجر فيه ولا وزر كقولك‏:‏ قم واقعد وأكلت وشربت ونحوه‏)‏ لأنه ليس بعبادة ولا معصية، ثم قيل لا يكتب لأنه لا أجر عليه ولا عقاب‏.‏ وعن محمد ما يدل عليه، فقد روي عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن الملائكة لا تكتب إلا ما كان فيه أجر أو وزر، وقيل يكتب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 12‏]‏ الآية، ثم يمحى ما لا جزاء فيه ويبقى ما فيه جزاء، ثم قيل يمحى في كل اثنين وخميس وفيهما تعرض الأعمال‏.‏ والأكثرون على أنها تمحى يوم القيامة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومنه ما يوجب الإثم كالكذب والنميمة والغيبة والشتيمة‏)‏ لأن كل ذلك معصية حرام بالنقل والعقل ‏(‏ثم الكذب محظور إلا في القتال للخدعة، وفي الصلح بين اثنين، وفي إرضاء الرجل الأهل، وفي دفع الظالم عن الظلم‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا يصلح الكذب إلا في ثلاث‏:‏ في الصلح بين اثنين، وفي القتال، وفي إرضاء الرجل أهله‏)‏ ودفع الظالم عن الظلم من باب الصلح‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره التعريض بالكذب إلا لحاجة‏)‏ كقولك لرجل كل، فيقول أكلت‏:‏ يعني أمس فلا بأس به لأنه صادق في قصده‏.‏ وقيل يكره لأنه كذب في الظاهر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا غيبة لظالم يؤذي الناس بقوله وفعله‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏اذكروا الفاجر بما فيه لكي تحذره الناس‏)‏ ‏(‏ولا إثم في السعي به إلى السلطان ليزجره‏)‏ لأنه من باب النهي عن المنكر ومنع الظلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا غيبة إلا لمعلومين، فلو اغتاب أهل قرية فليس بغيبة‏)‏ لأن المراد مجهول فصار كالقذف، وكره محمد إرخاء الستر على البيت لأنه نوع تكبر وفيه زينة، ولا بأس بستر حيطان البيت باللبود ونحوه لدفع البرد لأن فيه منفعة، ويكره للزينة وقد مر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن وجوار جميلة فلا بأس به‏)‏ فإن النبي عليه الصلاة والسلام تسرّى مارية أم إبراهيم مع ما كان عنده من الحرائر، وعلي رضي الله عنه استولد محمد بن الحنفية مع ما كان عنده من الحرائر؛ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن قنع بأدنى الكفاية وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى‏)‏ لأن ما عند الله خير وأبقى‏.‏ واعلم أن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة وما زاد عليه من التنعم ونيل اللذات رخصة وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ولم أبعث بالرهبانية الصعبة‏)‏ وفي الحديث ‏(‏لا يزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة‏:‏ عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيماذا صرفه‏؟‏‏)‏ والذي يجب على المسلم أن يتمسك بخصال‏:‏ منها التحرز عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ ومنها المحافظة على أداء الفرائض في أوقاتها بواجباتها تامة كما مر بها؛ ومنها التحرز عن السحت واكتساب المال من غير حله؛ ومنها التحرز عن ظلم كل مسلم أو معاهد، وما عدا ذلك فقد وسع الله تعالى علينا الأمر فيه، فلا نضيقه علينا ولا على أحد من المسلمين‏.‏ وفي الحديث ‏(‏أن النبي عليه الصلاة والسلام وعظ الناس يوما وذكر القيامة، فرقّ له الناس وبكوا، فاجتمع عشرة في بيت عثمان بن مظعون، وهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويلبسوا المسوح ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم‏:‏ ‏(‏ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلى وما أردنا إلا خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إني لم آمر بذلك‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏ ثم خطب فقال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، فإن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ونزل قوله تعالى‏:‏‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ - إلى قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 88‏]‏‏.‏

تم الجزء الرابع من الاختيار لتعليل الأخبار ويليه‏:‏ الجزء الخامس، وأوله‏:‏ كتاب الصيد‏.‏